فتاوى حسن البنا السياسية- نظرة فقهية رشيدة في قضايا الأمة

المؤلف: د. عصام تليمة11.02.2025
فتاوى حسن البنا السياسية- نظرة فقهية رشيدة في قضايا الأمة

في مقال سابق، سلطنا الضوء على الجانب الفقهي والفتوى لدى الإمام حسن البنا، وهو أمر قد يغفل عنه العديد من الباحثين في حركات الإسلام السياسي، أو أولئك الذين يبنون آراءهم دون تدقيق وتحري كافيين. ما أوردناه آنفًا كان مجرد إشارة مقتضبة إلى جوانب متعددة من مخزون فقهي زاخر لرائد من رواد الدعوة الإسلامية المعاصرة. هذا الداعية الفذ أسس حركة فريدة جمعت بين النشاط الدعوي في مساحاته التقليدية والخوض في غمار السياسة على الصعيدين المحلي والدولي. لذا، بات من الضروري الوقوف بتأمل أمام آرائه وفتاواه الفقهية التي تتعلق بهذا الجانب السياسي تحديدًا.

التركيز هنا ينصب على استعراض الفتاوى التي تتداخل مع الشأن السياسي، وليس على دراسة الفكر السياسي للإمام البنا من حيث مواقفه السياسية وآرائه وأدائه، فهذا الجانب حظي باهتمام وافر في الدراسات السابقة. من أبرز هذه الدراسات وأشهرها، رسالة ماجستير للدكتور إبراهيم البيومي غانم، التي تناولت الفكر السياسي عند حسن البنا بعمق وتفصيل علمي دقيق. نحن نتحدث هنا عن الفتاوى السياسية التي تعكس موقفه من السلطة في مصر، وموقفه من العدو المحتل، وكيفية التعامل معه، استنادًا إلى فتاوى صدرت عن البنا نفسه، وقد لا تكون معروفة على نطاق واسع.

تطبيق الحدود على أعضاء الجماعة

يشاع أحيانًا أن البنا كان ينظر إلى الوطن، أو إلى مصر، نظرة متعالية أو من زاوية عدم الانتماء، وهذا التصور ناتج عن رؤية سياسية ضيقة الأفق، وليس عن قراءة متأنية لشخصيته وأفكاره. فقد كان البنا يتعامل مع السلطة في مصر على أنها سلطة شرعية، حتى وإن اختلف معها في بعض القضايا، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، وكان يرى أن الإصلاح المنشود يجب أن يتحقق من خلال النضال الدستوري المشروع.

توجد فتوى غير مشهورة للإمام البنا تتعلق بموضوع بالغ الدقة والخطورة، وهو تطبيق الحدود في مصر. فقد وصله اقتراح من أحد الإخوان بأن تبدأ الجماعة بتطبيق الحدود على أفرادها، بحيث يتم تشكيل لجنة خاصة تتولى تنفيذ العقوبة على من يرتكب خطأ يستوجب ذلك. فردّ البنا على هذا الاقتراح قائلًا: "لا أريد أن نكون قومًا نظريين، وأحب من كل أخ مسلم أن يضع الناحية العملية في حسابه دائمًا، ويجعلها أساس مقترحاته. إن تنفيذ اقتراح الأخ يتوقف على وجود أخ مسلم يرتكب جرمًا يستوجب حدًا من حدود الله، فيتقدم هذا الأخ مختارًا إلى اللجنة المقترحة معترفًا بذنبه، مقرًا بجرمه، طالبًا إقامة الحد عليه، وبغير وجود هذا الصنف لا يكون لهذه اللجان عمل، وتكون هيئة نظرية بحتة. فإذا وُجد هذا الأخ، فالذي أقترحه عليه: أن يتقدم هو بنفسه إلى الحكومة القائمة معترفًا بجرمه، طالبًا إليها أن تقيم الحد عليه، فإذا أبت ذلك، فليتقدم إلى الإخوان بطلبه هذا، وحينئذ يستطيع الإخوان أن يتخذوا من ذلك وسيلة إلى مؤاخذة الحكومة بجريمة الإهمال والتعطيل وإلى أن يطلبوا إليها الترخيص لهم بهذه اللجان".

واستطرد الإمام البنا قائلًا: "وبما أن ذلك بعيد الوقوع، فليس أمام الإخوان المسلمين في الحقيقة إلا أن يواصلوا جهادهم حتى يوقظوا الشعب من سباته، ويكتسبوا الرأي العام إلى صفهم. ولا زال في الشعب المصري والحمد لله يقين وإيمان. وبهذه الطريقة يكونون الحكومة الإسلامية التي تعدل القوانين وفق الإسلام، أو ترغم الحكومات القائمة على سلوك هذا السبيل".

نجاسة المحتل

من بين الفتاوى السياسية التي أصدرها الإمام البنا فيما يتعلق بالعلاقة مع المحتلين لبلاد المسلمين، فتواه الشهيرة بنجاسة المحتلين نجاسة معنوية وحسية. وقد استند في هذه الفتوى إلى قاعدة "تغيّر الفتوى بتغيّر الزمان والمكان"، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. يقول البنا: "وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المشرك نجس نجاسة حسية ومعنوية، وحُكي هذا القول عن: ابن عباس، والحسن البصري، ومالك، وعن الهادي، والقاسم، والناصر من أئمة أهل المعتزلة، وهو مذهب جمهور الظاهرية والشيعة الإماميَّة، وبناء على هذا الرأي: فإن من صافح مشركًا وَجَبَ عليه أن يطهر يده من نجاسته".

ثم يضيف قائلًا: "وجمهور أئمة المسلمين على خلاف هذا الرأي، ومنهم أهل المذاهب الأربعة، وقد حملوا الآية على النجاسة المعنوية. والسنة تؤيِّد ذلك، وأحكام الإسلام العملية تعزِّزه".

ويؤكد البنا: "هذا هو رأي جمهور أئمة المسلمين، على أننا نأخذ بالرأي الأول عمليًّا إذا ما استمرَّ عدوان دولهم وشعوبهم على حرياتنا وخيرات بلادنا، والإسلامُ صالحٌ لكل زمان ومكان وحال". ويستشهد بقول الشاعر: "وكالسيف إن لاينته لان متنه وحدَّاه إن خاشنته خَشِنَان".

دليل فقهي غير مسبوق عن المقاطعة

مما يبرهن على امتلاك حسن البنا للملكة الفقهية الراسخة، وقدرته الفائقة على استحضار النصوص القرآنية والنبوية للاستدلال على القضايا المطروحة، ما نراه جليًا في دعوته إلى مقاطعة المحتلين وبضائعهم ومنتجاتهم. لقد طرح هذا الأمر في وقت مبكر جدًا من انتشار دعوات المقاطعة بين العلماء، ولكن الدليل الذي ساقه البنا كان فريدًا من نوعه، ولم نرَه من قبل أو عند أحد معاصريه. ففي أحد مقالاته الأسبوعية التي كان يكتبها كل يوم جمعة تحت عنوان "حديث الجمعة"، تطرق إلى حادثتي بئر الرجيع وبئر معونة، ورفض أحد الصحابة الاستسلام للمشركين حتى لا يقع في الأسر. يقول البنا:

"وأما عاصم رضي الله عنه فقد أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعيد، وهي أم مسافع وجلاس ابني طلحة العبدري، وكان عاصم قتلهما يوم أُحد، فنذرت حين أصاب ابنيها: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربنّ الخمر في قحفه، وجعلت لمَن جاء برأسه مائة ناقة، ولكن هذيلًا لم تستطع أن تصل إلى جثمان عاصم، أو تمس شيئًا من بدنه، فقد أرسل الله عليه ظلة من الدبر (وهو النحل الكبير) فكلما قربوا منه ذاقوا من لسعه مرّ العذاب، فلم يقدروا منه على شيء".

ويستطرد قائلًا: "وكان عاصم قد أعلنها على المشركين مقاطعة عامة شاملة: ألا يمس مشركًا، وألا يمسه مشرك، وعاهد الله على ذلك، فصدقه الله، وكانوا يسمونه: محمي الدبر، وغاب جثمانه عن أعينهم، فلم يعلموا أين ذهب به، وبلغ خبره عمر- رضي الله عنه- فقال: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته". ثم يختتم البنا قائلًا: "أيها المسلمون: أول الجهاد المقاطعة، وهكذا فقاطعوا إن كنتم مؤمنين، واحفظوا الله يحفظكم الله".

تحريم التجنُّس بجنسية المحتل

من بين الفتاوى السياسية التي قد يعتبرها البعض متشددة، فتواه بتحريم التجنس بجنسية أجنبية، خاصة جنسية الدولة المحتلة. وقد كثر التساؤل عن هذا الأمر في ثلاثينيات القرن العشرين بين المسلمين في البلدان المحتلة، حيث انتشرت هذه الظاهرة في تونس والجزائر وغيرهما من الدول العربية والإسلامية. وكان حسن البنا من بين العلماء الذين طُلب منهم إصدار فتوى في هذا الشأن، فأجاب قائلًا:

"مجرد تجنس المسلم بأية جنسية أخرى لدولة غير إسلامية؛ كبيرة من الكبائر، توجب مقت الله وشديد عقابه. والدليل على ذلك ما رواه أبو داود عن أنس قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : "من ادعى لغير أبيه، أو انتمى لغير مواليه؛ فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة"، والآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى، وهي قول الله – تبارك وتعالى- : {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28]. فكيف إذا صحبه بعد ذلك واجبات وحقوق تبطل الولاء بين المسلمين، وتمزق روابطهم، وتؤدي إلى أن يكون المؤمن في صف الكافر أمام أخيه المؤمن، وإن خيرًا للمسلم أن يدع هذه الديار وأمثالها إن تعذرت عليه الإقامة فيها إلا بمثل هذه الوسيلة، وأرض الله واسعة".

تجدر الإشارة إلى أن الإمام البنا لم يكن الوحيد الذي حرّم التجنّس آنذاك، بل حرّمه بأشد درجات التحريم غالبية علماء المسلمين الذين أفتوا في هذا الموضوع، كابن باديس والإبراهيمي وابن عاشور ورشيد رضا، بل إن بعضهم استخدم عبارات أشد من تلك التي استخدمها حسن البنا. وقد علّل القرضاوي ذلك بأنهم نظروا إلى واقع الاحتلال ومعاملته لأهل البلد، وأنه بتغيّر هذه المعاملة تغيرت الفتوى بالجواز بشروط وضوابط، وذلك بحكم التطور العالمي، وتقارب الناس، وحاجة العالم إلى بعضه البعض، وتغير صفة بعض الدول من دول استعمارية ظالمة إلى دول حليفة أو شريكة للمسلمين.

فتاوى تنمّ عن فقه سياسي رشيد

بعد استعراض سريع لفتاوى الإمام البنا السياسية، نلمس بوضوح رؤيته الفقهية الثاقبة التي تنطلق من أدلة علمية رصينة، مع إدراك عميق للواقع الذي تصدر فيه الفتوى. كما نلاحظ تنزيلًا دقيقًا ومتبصرًا للنصوص على هذا الواقع، مع مراعاة لمآلات الفتوى، وحضور قوي للرأي الفقهي الذي يحقق الهدف المنشود. يضاف إلى ذلك حسن الاختيار والاستدلال، سواء من حيث اختيار الوجهة الفقهية، أو من حيث التدليل عليها. إن صواب رأيه في العديد من هذه الفتاوى يعود إلى خبرته الواسعة بالشأن العام، ممارسة وتنظيرًا وتأصيلًا، وهو الأمر الذي يغيب غالبًا عن فتاوى العديد من المشايخ في الشؤون السياسية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة